فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة الملك:
{تبارك} فعل مشتق من البركة، وقيل معناه تعاظم وهو مختص بالله تعالى ولم يُنطق له بمضارع {بِيدِهِ الملك} يعني ملك السموات والأرض والدنيا والآخرة، وقيل: يعني ملك الملوك في الدنيا فهو كقوله: مالك الملك، والأول أعم وأعظم.
{خلق الموت والحياة} يعني موت الخلق وحياتهم، وقيل: الموت الدنيا لأن أهلها يموتون، والحياة الآخرة لأنها باقية، فهو كقوله: {وإِنّ الدار الآخرة لهِي الحيوان} [العنكبوت: 64] وهو على هذا وصف بالمصدر والأول أظهر {لِيبْلُوكُمْ} أي ليختبركم، واختبار الله لعباده إنما هو لتقوم عليهم الحجة بما يصدر منهم، وقد كان الله علم ما يفعلون قبل كونه، والمعنى ليبلوكم فيجازيكم بما ظهر منكم {أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فقال: أيكم أحسن عملا وأشدكم لله خوفا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله.
{سبْع سماوات طِباقا} أي بعضها فوق بعض، والطباق مصدر وصفت به السموات، أو على حذف مضاف تقديره: ذوات طباق وقيل: إنه جمع طبقة.
{مّا ترى فِي خلْقِ الرحمن مِن تفاوُتٍ} أي: من قلة تناسب وخروج عن الإتقان، والمعنى أن خلقة السموات في غاية الإتقان وقيل؛ أراد خلقة جميع المخلوقات، ولا شك أن جميع المخلوقات متقنة، ولكن تخصيص الآية بخلقة السموات أظهر لورودها بعد قوله: {خلق سبْع سماوات طِباقا}، فبان قوله: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، بيان وتكميل ما قبله، والخطاب في قوله: ما ترى وارجع البصر وما بعده للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب ليعتبر {فارجع البصر هلْ ترى مِن فُطُورٍ} الفطور الشقوق جمع فطر، وهو الشق. وإرجاع البصر: ترديده في النظر، ومعنى الآية: الأمر بالنظر إلى السماء فلا يرى فيها شقاق ولا خلل بل هي ملتئمة مستوية {ثُمّ ارجِعِ البصر كرّتيْنِ} أي انظر نظرا بعد نظر للتثبت والتحقق، وقال الزمخشري: معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصة. كقولهم: لبيك فإن معناه إجابات كثيرة {ينْقلِبْ إِليْك البصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ} الخاسئ هو المبعد عن الشيء الذي طلبه، والحسير هو الكليل الذي أدركه التعب، فمعنى الآية أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقا أو خلالا رجع بصرك ولم تر شيئا من ذلك؛ فكانه خاسئ لأنه لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل، وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التأمل.
{ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا بِمصابِيح} السماء الدنيا، هي القريبة منا، والمصابيح يراد بها النجوم فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال، لأنها ظاهرة فيها لنا، ويحتمل أن يريد أنه زيّن السما الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها. على أن القول بموضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يرد في الشريعة {وجعلْناها رُجُوما لِّلشّياطِينِ} أي جعلنا منها رجوما، لأن الكواكب الثابتة ليست ترجم الشياطين، فهو كقولك: أكرمت بني فلان؛ إذا أكرمت بعضهم، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سُمي به ما يرجم به، قال الزمخشري: معنى كون النجوم رجوما للشياطين: والشهب تنقض من النجوم لرجم الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء، فالشهب الراجمة منفصلة من نار الكواكب، لا أن الراجمة هي الكواكب أنفسها؛ لأنها ثابتة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: زينة السماء ورجوم الشياطين ويهتدي بها في ظلمات البر والبحر {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السعير} يعني للشياطين.
{سمِعُواْ لها شهِيقا} الشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار، ويعني به هنا ما يسمع من صوت جهنم لشدّة غليانها وهوْلها أو شهيق أهلها، والأول أظهر {وهِي تفُورُ} أي تغلي بأهلها غليان القدر بما فيها.
{تكادُ تميّزُ مِن الغيْظِ} أي تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض لشدّة غيظها على الكفار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غيظ الزبانية والأول أظهر؛ لأن حال الزبانية يذكر بعد هذا، وغيظ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراك يخلقه الله له، أو يكون عبارة عن شدتها {كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ} أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألتهم الزبانية هل جاءكم من نذير؟ أي رسول، وهذا السؤال على وجه التوبيخ وإقامة الحجة عليهم، ولذلك اعترفوا فقالوا: {بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ}، وقوله: كلما يقتضي أن يقال ذلك لكل جماعة تلقى في النار {إِنْ أنتُمْ إِلاّ فِي ضلالٍ كبِيرٍ} يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار، أو من قول الكفار للرسل في الدنيا.
{وقالواْ} الضمير للكفار أي {لوْ كُنّا نسْمعُ} كلام الرسل ونعقل الصواب {ما كُنّا في أصْحابِ السعير} {فاعترفوا بِذنبِهِمْ} اعترافهم هذا في وقت لا ينفعهم الاعتراف، وذنبهم هنا يراد به تكذيب الرسل {فسُحْقا لأصْحابِ السعير} انتصب فسحقا بفعل مضمر على معنى الدعاء عليهم.
{بالغيب} فيه قولان أحدهما: أن معناه وهم غائبون عن الناس، ففي ذلك وصف لهم بالإخلاص والآخر أن الغيب ما غاب عنهم من أمور الآخرة وغيرها. على أن هذا القول إنما يحسن في قوله: {يُؤْمِنُون بالغيب} [البقرة: 3].
{وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ} المعنى سواء جهرتم أو أسررتم، فإن الله يعلم الجهر والسر.
{ألا يعْلمُ منْ خلق} هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء، لأن الخالق يعلم مخلوقاته، ويحتمل أن يكون {منْ خلق} فاعلا يراد به الخالق والمفعول محذوف تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه أو يكون {منْ خلق} مفعولا والفاعل مضمر تقديره: ألا يعلم الله من خلق، والأول أرجح؛ لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل، والمعنى الأول يعم من يعقل ومن لا يعقل.
{الأرض ذلُولا} فعول هنا بمعنى: مفعول، أي ذلولة فهي كركوب وحلوب {فامشوا فِي مناكِبِها} قال ابن عباس: هي الجبال وقيل: الجواب والنواحي وقيل: الطرق والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذل والمناكب تشبيها بالدواب {وإِليْهِ النشور} يعني البعث يوم القيامة.
{أأمِنتُمْ} الآية مقصودها التهديد والتخويف للكفار، وكذلك الآية التي بعدها {تمُورُ} ذكر في [الطور: 9] {حاصِبا} يحتمل أن يريد حجارة أو ريحا شديدة {نذِيرِ} بمعنى الإنذار وكذلك النكير بمعنى الإنكار.
{أولمْ يروْا إِلى الطير فوْقهُمْ صافّاتٍ ويقْبِضْن} تنبيه على الاعتبار بطيران الطيور في الهواء من غير شيء يمسكها، وصافّات جمع صافة وهي التي تبسط جناحها للطيران، والقبض: ضم الجناحين إلى الجنب وعطف يقبض على صافات، لأن الفعل في معنى الاسم تقديره: قابضات. فإن قيل: لِم لم يقل قابضات على طريقة صافات؟ فالجواب: أن يبسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكر بصيغة اسم الفاعل لدوامه وكثرته، وأما قبض الجناحين فإما يفعله الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة، فذكر بلفظ الفعل لقلته.
{أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُمْ} خطاب للكفار على وجه التوبيخ والتهديد وإقامة الحجة عليهم، ودخلت {أمّ} التي يراد بها الإنكار على {مّنْ} فأدغمت فيها، وكذلك {أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ} والضمير في أمسك: لله، أي من يرزقكم إن منع الله رزقه، {بل لّجُّواْ} أي تمادوا في العتوّ والنفور عن الإيمان.
{أفمن يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ} الآية توقيف على الحالتين، أيهما أهدى والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان: أحدهما: أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى والضلال في الدنيا، والآخر: أنه حقيقة في المشي في الآخرة لأن الكافر يحمل على المشي إلى جهنم على وجهه، فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبا أبو جهل والذي يمشي سويا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: حمزة وقيل؛ هي على العموم في كل مؤمن وكافر، وقد تمشي هذه الأقوال أيضا على الثاني، والمكب هو الذي يقع على وجهه، يقال: أكب الرجل وكبه غيره، فالمعدي دون همزة والقاصر بالهمزة بخلاف الأفعال.
{ويقولون متى هذا الوعد} الضمير للكفار والوعد يراد به البعث أو عذابهم في الدنيا.
{فلمّا رأوْهُ} ضمير الفاعل للكفار وضمير المفعول للعذاب الذي يتضمنه الوعد {زُلْفة} أي قريبا، وقيل: عيانا {سِيئتْ وُجُوهُ الذين كفرُواْ} أي ظهر فيها السوء لما حل بها {وقِيل هذا الذي كُنتُم بِهِ تدّعُون} تفتعلون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به، والقائلون لذلك الملائكة أو يقال لهم بلسان الحال.
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أهْلكنِي الله} الآية. سببها أن الكفار كانوا يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إن أهلكني الله وأهلك من معي أو رحمنا؛ فإنكم لا تنجون من العذاب الأليم على كل حال، والهلاك هنا يحتمل أن يراد به الموت أو غيره، ومعنى {يُجِيرُ الكافرين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ}: من يمنعهم من العذاب.
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح مآؤُكُمْ غوْرا} الآية احتجاج على المشركين، والغور مصدر وصف به فهو بمعنى غاير أي ذاهب في الأرض، والمعين الكثير، واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول؟ فالمعنى إن غار ماؤكم الذي تشربون هل يأتيكم غير الله بماء معين؟. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الملك مكية، وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها وتنجيه من عذاب القبر، وآيها ثلاثون آية.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{تبارك الذي بِيدِهِ الملك}
بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها. {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} على كل ما يشاء قدير.
{الذى خلق الموت والحياة} قدرهما أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدره، وقدم الموت لقوله: {وكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} ولأنه أدعى إلى حسن العمل. {لِيبْلُوكُمْ} ليعاملكم المختبر بالتكليف أيها المكلفون. {أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} أصوبه وأخلصه، وجاء مرفوعا: «أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته» جملة واقعة موقع المفعول ثانيا لفعل البلوى المتضمن معنى العلم، وليس هذا من باب التعليق لأنه يخل به وقوع الجملة خبرا لما لا يعلق الفعل عنها بخلاف ما إذا وقعت موقع المفعولين. {وهُو العزيز} الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل. {الغفور} لمن تاب منهم.
{الذى خلق سبْع سموات طِباقا} مطابقة بعضها فوق بعض مصدر طابقت النعل إذا خلطتها طبقا على طبق وصف به، أو طوبقت طباقا أو ذات طباق جمع طبق كجبل وجبال، أو طبقة كرحبة ورحاب. {مّا ترى في خلْقِ الرحمن مِن تفاوت} وقرأ حمزة والكسائي {من تفوت} ومعناهما واحد كالتعاهد والتعهد، وهو الاختلاف وعدم التناسب من الفوت كأن كلا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر، والجملة صفة ثانية ل {سبْع} وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير للتعظيم، والإِشعار بأنه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضلا، وأن في إبداعها نعما جليلة لا تحصى، والخطاب فيها للرسول أو لكل مخاطب وقوله: {فارجع البصر هلْ ترى مِن فُطُورٍ} متعلق به على معنى التسبب أي قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرة أخرى متأملا فيها لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها ما ينبغي لها، وال {فُطُورٍ} الشقوق والمراد الخلل من فطره إذا شقه.
{ثُمّ اْرجِعِ البصر كرّتيْنِ} أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك وسعديك، ولذلك أجاب الأمر بقوله: {ينقلِبْ إِليْك البصرُ خاسِئا} بعيدا عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طردا بالصغار {وهُو حسِيرٌ} كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
{ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا} أقرب السموات إلى الأرض. {بمصابيح} بالكواكب المضيئة بالليل إضاءة السرج فيها، والتنكير للتعظيم ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سموات فوقها إذ التزيين بإظهارها فيها. {وجعلناها رُجُوما للشياطين} وجعلنا لها فائدة أخرى وهي رجم أعدائكم، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل معناه وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإِنس وهم المنجمون. {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السعير} في الآخرة بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا.
{والذين كفرُواْ بِربّهِمْ} من الشياطين وغيرهم. {عذابُ جهنّم وبِئْس المصير} وقرئ بالنصب على أن {لِلّذِين} عطف على {لهُمْ} و{عذابِ} على {عذابِ السعير}.
{إِذا أُلْقُواْ فِيها سمِعُواْ لها شهِيقا} صوتا كصوت الحمير. {وهِى تفُورُ} تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.
{تكادُ تميّزُ مِن الغيْظِ} تتفرق غيظا عليهم، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم، ويجوز أن يراد غيظ الزبانية. {كُلّما أُلْقِى فِيها فوْجٌ} جماعة من الكفرة. {سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} يخوفكم هذا العذاب وهو توبيخ وتبكيت.
{قالواْ بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل الله مِن شيء إِنْ أنتُمْ إِلاّ في ضلال كبِيرٍ} أي فكذبنا الرسل وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإِنزال والإِرسال رأسا، وبلغنا في نسبتهم إلى الضلال، فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل أو مصدر مقدر بمضاف أي أهل إنذار، أو منعوت به للمبالغة أو الواحد والخطاب له ولأمثاله على التغليب، أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل، أو على أن المعنى قالت الأفواج قد جاء إلى كل فوج منا رسول من الله فكذبناهم وضللناهم، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الزبانية للكفار على إرادة القول فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا، أو عقابه الذي يكونون فيه.
{وقالواْ لوْ كُنّا نسْمعُ} كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات. {أوْ نعْقِلُ} فنتفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين. {ما كُنّا في أصحاب السعير} في عدادهم ومن جملتهم.
{فاعترفوا بِذنبِهِمْ} حين لا ينفعهم، والاعتراف إقرار عن معرفة، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر، أو المراد به الكفر. {فسُحْقا لأصحاب السعير} فأسحقهم الله سحقا أبعدهم من رحمته، والتغليب للإِيجاز والمبالغة والتعليل وقرأ الكسائي بالتثقيل.
{إِنّ الذين يخْشوْن ربّهُم بالغيب} يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد، أو غائبين عنه أو عن أعين الناس، أو بالمخفي منهم وهو قلوبهم. {لهُم مّغْفِرةٌ} لذنوبهم. {وأجْرٌ كبِيرٌ} تصغر دونه لذائذ الدنيا.
{وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور} بالضمائر قبل أن يعبر عنها سرا أو جهرا.
{ألا يعْلمُ منْ خلق} ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء حسبما قدرته حكمته. {وهُو اللطيف الخبير} المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، أو ألا يعلم الله من خلقه، وهو بهذه المثابة والتقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون ل {يعْلمْ} مفعول ليفيد، روي: أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء، فيخبر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيقولون: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنبه الله على جهلهم.
{هُو الذي جعل لكُمُ الأرض ذلُولا} لينة يسهل لكم السلوك فيها. {فامشوا في مناكِبِها} في جوانبها أو جبالها، وهو مثل لفرط التذليل فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شيء لم يتذلل. {وكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} والتمسوا من نعم الله. {وإِليْهِ النشور} المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.
{أأمِنْتُمْ منْ في السماء} يعني الملائكة الموكلين على تدبير هذا العالم، أو الله تعالى على تأويل {مّن في السماء} أمره أو قضاؤه، أو على زعم العرب فإنهم زعموا أنه تعالى في السماء، وعن ابن كثير {وامنتم} بقلب الهمزة الأولى واوا لانضمام ما قبلها، {وآمنتم} بقلب الثانية ألفا، وهو قراءة نافع وأبي عمرو ورويس. {أن يخْسِف بِكُمُ الأرض} فيغيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدل الاشتمال. {فإِذا هي تمُورُ} تضطرب، والمور التردد في المجيء والذهاب.
{أمْ أمِنتُمْ مّن في السماء أن يُرْسِل عليْكُمْ حاصبا} أن يمطر عليكم حصباء. {فستعْلمُون كيْف نذِيرِ} كيف إنذاري إذا شاهدتم المنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
{ولقدْ كذّب الذين مِن قبْلِهِمْ فكيْف كان نكِيرِ} إنكاري عليهم بإنزال العذاب، وهو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لقومه المشركين.
{أولمْ يروْا إِلى الطير فوْقهُمْ صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها. {ويقْبِضْن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتا بعد وقت للاستظهار به على التحريك، ولذلك عدل به إلى صيغة الفعل للتفرقة بين الأصل في الطيران والطارئ عليه. {ما يُمْسِكُهُنّ} في الجو على خلاف الطبع. {إِلاّ الرحمن} الشامل رحمته كل شيء بأن خلقهن على أشكال وخصائص هيأتهن للجري في الهواء. {إِنّهُ بِكُلّ شيء بصِيرٌ} يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب.
{أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} عديل لقوله: {أو لمْ يروْاْ} على معنى أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب، أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه فهو كقوله: {أمْ لهُمْ الِهةٌ تمْنعُهُمْ مّن دُونِنا} إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم، و{مِنْ} مبتدأ و{هذا} خبره و{الذى} بصلته صفته و{ينصُرْكُمُ} وصف ل {جُندٌ} محمول على لفظه. {إِنِ الكافرون إِلاّ في غُرُورٍ} لا معتمد لهم.
{أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ} أم من يشار إليه ويقال: {هذا الذي يرْزُقُكُمْ}. {إِنْ أمْسك رِزْقهُ} بإمساك المطر وسائر الأسباب المخلصة والموصلة له إليكم. {بل لّجُّواْ} تمادوا. {فِى عُتُوّ} عناد. {ونُفُورٍ} شراد عن الحق لتنفر طباعهم عنه.
{أفمن يمْشِى مُكِبّا على وجْهِهِ أهدى} يقال كببته فأكب وهو من الغرائب كقشع الله السحاب فأقشع، والتحقيق أنهما من باب أنفض بمعنى صار ذا كب وذا قشع، وليس مطاوعي كب وقشع بل المطاوع لهما أنكب وانقشع، ومعنى {مُكِبّا} أنه يعثر كل ساعة ويخر على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه، ولذلك قابله بقوله: {أمّن يمْشِى سوِيّا} قائما سالما من العثار. {على صراط مُّسْتقِيمٍ} مستوي الأجزاء والجهة، والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين والدينين بالمسلكين، ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا، كمشي المتعسف في مكان متعاد غير مستو. وقيل المراد بالمكب الأعمى فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير، وقيل من {يمْشِى مُكِبّا} هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ومن {يمْشِى سوِيّا} الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
{قُلْ هُو الذي أنشأكُمْ وجعل لكُمُ السمع} لتسمعوا المواعظ. {والأبصار} لتنظروا صنائعه. {والأفئدة} لتتفكروا وتعتبروا. {قلِيلا مّا تشْكُرُون} باستعمالها فيما خلقت لأجلها.
{قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأضرض وإِليْهِ تُحْشرُون} للجزاء.
{ويقولون متى هذا الوعد} أي الحشر أو ما وعدوا به من الخسف والحاصب. {إِن كُنتُمْ صادقين} يعنون النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين.
{قُلْ إِنّما العلم} أي علم وقته. {عند الله} لا يطلع عليه غيره. {وإِنّما أناْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} والإِنذار يكفي فيه العلم بل الظن بوقوع المحذر منه.
{فلمّا رأوْهُ} أي الوعد فإنه بمعنى الموعود. {زُلْفة} ذا زلفة أي قرب منهم. {سِيئتْ وُجُوهُ الذين كفرُواْ} بأن علتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. {وقِيل هذا الذي كُنتُم بِهِ تدّعُون} تطلبون وتستعجلون تفتعلون من الدعاء، أو {تدْعُون} أن لا بعث فهو من الدعوى.
{قُلْ أرءيْتُمْ إِنْ أهْلكنِى الله} أماتني. {ومن مّعِى} من المؤمنين. {أوْ رحِمنا} بتأخير آجالنا. {فمن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} أي لا ينجيهم أحد من العذاب متنا أو بقينا، وهو جواب لقولهم {نّتربّصُ بِهِ ريْب المنون} {قُلْ هُو الرحمن} الذي أدعوكم إليه مولى النعم كلها. {آمنّا بِهِ} للعلم بذلك {وعليْهِ توكّلْنا} للوثوق عليه والعلم بأن غيره بالذات لا يضر ولا ينفع، وتقديم الصلة للتخصيص والإِشعار به. {فستعْلمُون منْ هُو في ضلال مُّبِينٍ} منا ومنكم، وقرأ الكسائي بالياء.
{قُلْ أرءيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} غائرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء مصدر وصف به. {فمن يأْتِيكُمْ بِماءٍ مّعِينٍ} جار أو ظاهر سهل المأخذ.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر». اهـ.